الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الصابوني: اعتزال النساء في الحيض: .التحليل اللفظي: أي أشكو شدة العيش، ويطلق المحيض على الزمان والمكان ويطلق على الحيض مجازًا، أفاده القرطبي. وأصل الحيض: السيلان، يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت. قال الأزهري: ومنه قيل للحوض حوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل. ويقال للمرأة: حائض، وحائضة كذا قال الفراء وأنشد: كحائضةٍ يُزْنى بها غير طاهر... {أَذًى} قال عطاء: أذى: أي قذر، والأذى في اللغة ما يكره من كل شيء ومنه قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264]. قال في المصباح: أذى الشي أذى من باب تعب بمعنى قذر، وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} أي مستقذر. وقال الطبري: وسمي الحيض أذى لنتن ريحه وقذره ونجاسته. {فاعتزلوا} الاعتزال التنحي عن الشيء والاجتناب له، ومنه قوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48] والمرادُ باعتزال النساء اجتناب مجامعتهن، لا ترك المجالسة أو الملامسة فإن ذلك جائز. {يَطْهُرْنَ} بالتخفيف أي ينقطع عنهم دم الحيض، وبالتشديد {يَطّهَرْن} بمعنى يغتسلن. {حَرْثٌ} قال الراغب: الحرث إلقاء البذر في الأرض وتهيؤها للزرع، ويسمى المحروث حرثًا قال تعالى: {أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} [القلم: 22]. وقال الجوهري: الحرث: الزرع، والحارث الزارع، ومعنى {حرثٌ} أي مزرع ومنبت للولد، والآية على حذف مضاف أي موضع حرثكم، أو على سبيل التشبيه ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج، فالحرث بمعنى المحترث، سمي موضع الشيء باسم الشيء على سبيل المبالغة. {أنى شِئْتُمْ} أي كيف شئتم أو على أي وجهٍ شئتم مقبلة، أو مدبرة، أو قائمة، أو مضجعة بعد أن يكون المأتي في موضع الحرث. قال الطبري: وقال ابن عباس: {فاتوا حرثكم أنَّى شئتم} أي ائتها أنَّى شئت مقبلة ومدبرة، ما لم تأتها في الدبر والمحيض. وعن عكرمة: يأتيها كيف شاء، ما لم يعمل عمل قوم لوط. {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي قدموا الخير والصالح من الأعمال، لتكون زادًا لكم إلى الآخرة. {واتقوا الله} أي خافوا عذابه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. {وَبَشِّرِ المؤمنين} بالثواب والكرامة والفوز بالدرجات العلى في دار النعيم. .المعنى الإجمالي: ثم أكد تعالى النهي عن إتيان النساء في غير المحل المعهود الذي أباحه للرجال فقال ما معناه: نساؤكم- أيها الناس- مكان زرعكم وموضع نسلكم، وفي أرحامهن يتكوّن الجنين والولد، فأتوا نساءكم كيف شئتم ومن أي وجهٍ أحببتم بعد أن يكون في موضع النسل والذرية، قال ابن عباس: اسق نباتك من حيث ينبت وقدموا- أيها الناس المؤمنون- لأنفسكم صالح الأعمال وراقبوا الله وخافوه في تصرفاتكم، واخشوا يومًا تلقون فيه ربكم فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته وبشر المؤمنين بالكرامة والسيادة والنعيم المقيم في دار الكرامة. .سبب النزول: ثانيًا: وعن جابر رضي الله عنه قال: «كانت اليهود تقول: من أتى امرأته في قُبُلها من دُبُرها كان الولد أحول، فنزلت {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ}». .وجوه القراءات: قال الفخر: فمن خفّف فهو زوال الدم من طهرت المرأة من حيضها إذا انقطع الحيض، والمعنى: لا تقربوهنّ حتى يزول عنهن الدم، ومن قرأ بالتشديد فهو على معنى يتطهّرن. .وجوه الإعراب: قال القرطبي: {أنّى شئتم} معناه عند الجمهور من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة و{أنّى} تجيء سؤالًا وإخبارًا عن أمر له جهات، فهو أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى هذا هو الاستعمال العربي في أنّى. .لطائف التفسير: كان اليهود يبالغون في التباعد عن المرأة حالة الحيض، فلا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يساكنونها في بيت واحد، ويعتبرونها كأنها داءٌ أو رجس وقذر، وكان النصارى يفرطون في التساهل فيجامعونهن ولا يبالون بالحيض، فجاء الإسلام بالحدّ الوسط افعلوا كلّ شيء إلا النكاح وهذا من محاسن الشريعة الإسلامية الغراء حيث أمر المسلمين بالاقتصاد بين الأمرين. اللطيفة الثانية: لفظ {المحيض} قد يكون اسمًا للحيض نفسه، وقد يكون اسمًا لموضع الحيض كالمبيت والمقيل موضع البيتوتة وموضع القيلولة، ولكن في الآية الكريمة ما يشير إلى أن المراد بالمحيض هو الحيض لأن الجواب ورد بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} وذلك صفة لنفس الحيض لا للموضع الذي فيه. أفاده العلامة الجصاص. اللطيفة الثالثة: قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل: لا تَقْرَب بفتح الراء كان معناه: لا تَلْبَس بالفعل، وإن كان بضم الراء كان معناه: لا تدن منه فلما قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} دلّ على أن المراد النهي عن ملابسة الفعل وهو إتيانهن في حالة الحيض. اللطيفة الرابعة: روى الطبري عن مجاهد أنه قال: «عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عَرَضات، من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} فقال ابن عباس: إن هذا الحيّ من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة، ويتلذّذون بهن مقبلات ومدبرات، فلمّا قدموا المدينة تزوجوا في الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نؤتى عليه، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ذكره {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركه، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث». اللطيفة الخامسة: شبّه الله المرأة بالحرث، أي أنها مزرع ومنبت للولد كالأرض للنبات، وهذا التشبيه يبيّن أن الإباحة لا تكون إلا في الفرج خاصة، إذ هو مزرع الولد، وقد أنشد ثعلب. فجعل رحم المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج. .الأحكام الشرعية: .الحكم الأول: ما الذي يجب اعتزاله من المرأة حالة الحيض؟ أ- الذي يجب اعتزاله جميع بدن المرأة، وهو مروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني. ب- الذي يجب اعتزاله ما بين السرة إلى الركبة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك. ج- الذي يجب اعتزاله موضع الأذى وهو الفرج فقط، وهذا مذهب الشافعي. حجة المذهب الأول: أن الله أمر باعتزال النساء، ولم يخصص من ذلك شيئًا دون شيء، فوجب اعتزال جميع بدن المرأة لعموم الآية: {فاعتزلوا النساء فِي المحيض}. قال القرطبي: وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء، وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافة. ب- حجة المذهب الثاني: واحتج أبو حنيفة ومالك بما روي عن عائشة قالت: «كنتُ أغتسل أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلانا جنبٌ، وكان يأمرني فأتّزر فيباشرني وأنا حائض» وما روي عن عن ميمونة أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيّض». ج- حجة المذهب الثالث: واحتج الإمام الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» وما روي عن مسروق قال: سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: كلّ شيء إلاّ الجماع. وفي رواية أخرى: إن مسروقًا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهل بيته، فقالت عائشة: أبو عائشة مرحبًا فأذنوا له، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا استحي، فقالت: إنما أنا أمك وأنت ابني، فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت: له كل شيء إلا فرجها. الترجيح: ومن استعراض الأدلة يترجح لدينا المذهب الثاني، وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري حيث قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتزر ودونه. والعلة أن السماح بالمباشرة فيما بين السرة إلى الركبة قد تؤدي إلى المحظور، لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالاحتياط أن نبعده عن منطقة الحظر وقد قالت عائشة رضي الله عنها بعد أن روت حديث المباشرة: وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟ ومن جهةٍ أخرى إذا اجتمع حديثان أحدهما فيه الإباحة والثاني فيه الحظر، قدّم ما فيه الحظر، كما قال علماء الأصول والله أعلم.
|